"إن أهل كل طبقة، وجهابذة كل أمة؛ قد تكلموا في الأدب وتفلسفوا في العلوم علي كل لسان، ومع كل زمان؛ وإن كل متكلم منهم قد استفرغ غايته وبذل مجهوده في اختصار بديع معاني المتقدمين، واختيار جواهر ألفاظ السالفين؛ وأكثروا في ذلك حتي احتاج المُخْتَصَر منها إلي اختصار، والمُتخَيَّر إلي اختيار."، بهذه الفقرة البسيطة البليغة افتتح ابن عبد ربه الأندلسي مقدمة كتابه العقد الفريد معللًلا فيها الفائدة الأعمّ التي يؤديها كتابه الثمين وهي تقديم خلاصة الخلاصة مما توصل إليه وكتب فيه السالفين، وابن عبد ربه الأندلسي علم من أعلام الأدب الأندلسي في الحكم الإسلامي فقد كان من أقوى شعراء الأندلس الذين تعددت أغراض قصائدهم فكتب في الغزل كثيرًا ثم تاب ونشر فن الموشحات، وكتب في الزهد، وحقق رخاء عيشه وثراءه من مدح الأمراء، وفي أسلوبه الشعري بساطة وحكمة تليق به كشاعر باحث في أمور الأمم السابقة وحكمها وقصصها فمن قوله الرائع :
" أَنْتِ دَائي وَفي يَدَيْكِ دَوَائي يَا شِفائي مِنَ الجَوى وَبَلائي
إِنَّ قلبي يُحِبُّ مِنْ لا أُسَمِّي في عَنَاءٍ أَعْظِمْ بِهِ مِنْ عَناءِ
كيْفَ لا كيْفَ أَنْ ألذَّ بِعَيْشٍ مَاتَ صبري بهِ ومَاتَ عَزَائي
أَيُّها اللّائِمونَ ماذا عَلَيْكم أَنْ تَعيشُوا وأنْ أَمُوتَ بِدائي
ولَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتراحَ بِمَيْتٍ إنما الميْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ ".
وأشعاره كثيرة بسيطة الأسلوب رائعة المعاني والصياغة ولكن أبلغ وأشمل ما قدم ابن عبد ربه لم يكن الشعر وإنما كان العقد الفريد؛ الكتاب الشهير حتى يومنا هذا الذي قد يعد مرجعًا بسيطًا لمن يود البدء في قراءة لون واسع من الأدب العربي وهو تدوين حكايات وحكم وأقوال الأمم السابقة في شتى أمور الحياة؛ وهي مهمة أدبية صعبة نظرًا لاحتياجها قدرة قوية على البحث بجانب الموهبة والأسلوب الكتابي الأدبي والقدرة على تبسيط المعاني والقصص القديمة .
وتميز ابن عبد ربه الأندلسي عن دونه ممن حاولوا تدوين قصص وحكم وأمثال السابقين في أنه جاء بعدهم فيقول عن نفسه:" إني رأيت آخر كل طبقة، وواضعي كل حكمة ومؤلفي كل أدب، أعذب ألفاظًا وأسهل بنية وأحكم مذهبًا وأوضح طريقة من الأول، لأنه ناكِص مُتَعَقَّب، والأول بادئٌ مُتَقدَّم ."، وكان وصفه حقًا حينما قال أن كتابه العقد الفريد قد أخذ جوهره من جواهر الأدب ومحصوله من جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولُباب الُّلباب.
أما عن سبب الاسم فإن العقد الفريد قد سُمي باسمه لكونه مشتملًا على جواهر الكلام مع حسن النظام فأصبح عقدًا يسر ناظره وقد نظمه ابن عبد ربه في خمسة وعشرين كتاب كل كتاب منهم انقسم إلي جزآن فأصبحت حبات العقد خمسون كاملة مُكملة لكل كتاب منهم اسمه وموضوعه الذي تناول جنباته في فصول متعددة والكتب هي:
كتاب اللؤلؤة في السلطان، الفريدة في الحروب، الزبرجدة في الأجواد والأصفاد، الجمانة في الوفود، المرجانة في مخاطبة الملوك، الياقوتة في العلم والأدب، الجوهرة في الأمثال ، الزمردة في المواعظ والزهد، الدرة في التعازي والمراثي، اليتيمة في النسب وفضائل العرب، المَسجَدة في كلام الأعراب، المجنبة في الأجوبة، الواسطة في الخطب، المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور وأخبار الكَتَبة، المَسجَدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم، اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجّاج، الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم ، الزمردة الثانية في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه، الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر وعلل القوافي، الياقوتة الثانية في علم الألحان، المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن، الجمانة الثانية في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين، الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان، الفريدة الثانية في الطعام والشراب وأخيرًا اللؤلؤة الثانية في الهدايا والفكاهات.
وكما ترى اختلاف موضوعات كتب العقد الفريد فقد اشتملت كل أمور الدنيا بما فيها الصغائر مثل توثيق ووصف الطعام والشراب وحكايات والبخلاء والطفيليين، والأمور الجلل مثل الحكم والخلفاء والسلطان.
وأفضل أن نتناول أول حبات العقد وهي اللؤلؤة الأولى في السلطان حتى نأخذ فكرة عامة عن هذا اللون من الأدب العربي وأسلوب ابن عبد ربه في تنفيذه؛ افتتح ابن عبد ربه اللؤلؤة بقول الحكماء أن: " إمام عادل خير من مطر وابل، وإمام غَشوم خير من فتنة تدوم، ولم يَزَعُ الله بالسلطان أكثر مما يَزَع بالقرآن ."؛ والمعنى قوي متصل في القول المُمَهِد للكتاب فالحاكم الخير أفضل من الغيث المستمر والحاكم القوي ولو كانت قوته إلي حد البطش خير من دوام الفتنة الممزقة للأمم، وأخيرًا القول الذي يُنسب أحيانًا لعثمان بن عفان رضي الله عنه أنه لم يَزَع الله بالسلطان أكثر مما يَزَع بالقرآن ومعناها أن السلطان ينهى عن حرمات قد لا ينتهي عنها البشر من القرآن فالعقاب المباشر من السلطان عند البعض أصدق وأسرع من العقاب الإلهي، وكما قال عبد الله ابن المقفع: " من أمن العقوبة أساء الأدب ."، وتتناول اللؤلؤة أمور السلطان جميعها انطلاقًا واستفتاحًا بما ذكرنا من قول الحكماء وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :"عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة."، ومن طبيعة الأمم عدم الرضا عن حاكمهم وشرح هذا ابن عبد ربه الأندلسي حتى قبل بدء الانخراط في موضوعات اللؤلؤة فقال:" من شأن الرعية قلة الرضا عن الأئمة، وتحجر العذر عليهم وإلزام اللائمة لهم ورب مَلومِ لا ذنب له، ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة إذ كان رضي جملتها، وموافقة جماعتها من المُعجز الذي لا يُدرك والممتنع الذي لا يُملك"، وبادئ أمر السلطان والمُلك يأتي فيه حق الإمام على رعيته في أن يقضي عليهم بأعمّ حكمه وأغلب فعله، ومن حق الرعية عليه أن يقابلهم قبولًا حسنًا لقاء طاعتهم وأن يقابل مكاشفتهم بالصفح والعفو الكريم، وفي هذا الموضع قصة زياد بن أبيه حينما تولى أمر العراق في الدولة الأموية فخطب في أهلها قائلًا:" أيها الناس، قد كانت بيني وبينكم إحن، فجعلت ذلك دَبَر أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنًا فليزدد في إحسانه، ومن كان مسيئًأ فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعًا ولم أهتك له سترًا حتى يُبدي صفحته لي."، وبدأت موضوعات اللؤلؤة بعد التعريف بقيمة وجلال مفهوم السلطان وولي الأمر وواجبه على رعيته وحقه منهم بموضوع نصيحة السلطان ولزوم طاعته، فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: "من فارق الجماعة أو خلع يدًا من طاعة مات ميتة جاهلية."، ومنها فإن نصيحة ولي الأمر وطاعته أمران واجبان ومن الفرض اللازم أدائه ولو تم استقباله بالكره والحنق، ويحكي ابن عبد ربه في هذا الموضع عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال لي أبي: أرى أن هذا الرجل - عمر بن الخطاب - يستفهمك ويقدمك على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وإني موصيك بخلال أربع : لا تفشين له سرًا، ولا يُجَرَّبَنَّ عليك كذبًا، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحدًا. قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف . قال:إي والله، ومن عشرة آلاف."
وفي قصة أخرى لرجل من الهند ينصح ملكه قد قال: " من كتم السلطان نصيحته، والأطباء مرضه، والإخوان بَثّه، فقد أخلّ بنفسه؛ وأنا أعلم أن كل كلام يكرهه سامعه لا يتشجع عليه قائله، إلا أن يثق بعقل المَقُول.
وفي قول ابن صفوان في خالصة السلطان حكمة شديدة حينما قال: من صحب السلطان بالصحة والنصيحة أكثر عَدُوّاً ممن صحبه بالغش والخيانة؛ لأنه يجتمع علي الناصح عدوُّ السلطان وصديقُه بالعداوة والحسد، فصديق السلطان يُنافسه في مرتبته، وعدوه يبغضه لنصيحته.
وتناول الأندلسي في فصل آخر مسألة صحبة السلطان وخدمه وعامليه واستشهد في هذا الموضع بقول ابن المقفع:" ينبغي لمن خدم السلطان ألا يغتر به إذا رضي ولا يتغيّر له إذا سخط، ولا يستثقل ما حمّله، ولا يُلحف في مسألته."؛ وحكي بعد ذلك ابن عبد ربه قصص مختلفة من امم متفاوتة الطباع منها قصة أبرويز هرمز أو أبرويز المظفر كسري وملك الفرس الذي كتب له الرسول رسالته الشهيرة التي في جزء منها جملة " أسلم تسلم " ، وقصة أبرويز كانت حينما نصح صاحب بيت ماله فقال له: " إني لا أعذرك في خيانة درهم، ولا أحمدك علي صيانة ألف ألف؛ لأنك إنما تحقن بذلك دمك وتقيم أمانتك، فإنك إن خنت قليلًا خنت كثيرًأ. واحترس من خصلتين: النقصان فيما تأخذ، والزيادة فيما تعطي؛ وأعلم أني لم أجعلك علي ذخائر الملك وعمارة المملكة والعُدَّة علي العدو، إلا وأنت عندي آمن من موضعه الذي هو فيه وخواتمه التي هي عليه، فحقق ظني باختياري إياك أحقق ظنك في رجائي إياي؛ ولا تتعوَّض بخير شرّاً ، ولا برفعه ضعة، ولا بسلامة ندامة، ولا بأمانة خيانة".
وتكلم الأندلسي بعد ذلك عن قصص وأقاويل في موضوع اختيار السلطان لأهل عمله ومنها قول النصارى: لا يُختار للجَثلقة -تولي أمر النصارى- إلا زاهدًا فيها غير طالب لها.
ثم تناول موضوع حسن السياسة وإقامة المملكة واستشهد بقول عبد الملك بن مروان لبنيه:"كلكم يترشح لهذا الأمر، ولا يصلح له منكم إلا من كان له سيف مسلول، ومال مبذول، وعدل تطمئن له القلوب."، كما استخدم وصف أعرابي لأحد الأمراء فقال:"كان إذا وَلي لم يطابق بين جفونه، وأرسل العيون علي عيونه؛ فهو غائب عنهم شاهد معهم؛ فالمحسن راج والمسيء خائف."، وفي مسألة السياسة فقد ذكر مثلًا وصية كسري الفرس أبرويز لابنه شيرويه التي قال فيه:" لا توسّعن على جندك سعة يستغنون بها عنك ولا تضيقن عليهم ضيقًا يضجون به منك؛ ولكن أعطهم عطاءً قصدًا؛ وامنعهم منعًا جميلًا، وابسط لهم في الرجاء، ولا تبسط لهم في العطاء".
وتنوعت وزادت موضوعات اللؤلؤة في السلطان لتشمل قصص عن كل أموره وجوانبه فشملت دون ما حكيناه قصصًا عدة في الموضوعات الآتية: بسط المعدلة ورد المظالم، صلاح الرعية بصلاح الإمام، الأقوال في الملك وجلسائه ووزرائه، صفة الإمام العادل، هيبة الإمام في تواضعه، حسن السيرة والرفق بالرعية، ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم، التعرض للسلطان والرد عليه، تحلَّم السلطان على أهل الدين والفضل إذا اجترأوا عليه المشورة، حفظ الأسرار، الإذن، الحجاب، الوفاء والغدر، الولاية والعزل وأخيرًا أحكام القضاة، كل موضوع منهم فيه قصصه وأقواله من أمم مختلفة في عصور مختلفة وهذا فقط كتاب من خمسة وعشرين كتابا ينقسمون كما قلنا إلى خمسين حبة نفيسة في هذا العقد الفريد؛ ولك أن تتخيل المدارك والعوالم التي ستعيشها في تجربتك مع ابن عبد ربه الأندلسي و عقده الفريد.
رابط لشراء طبعة قديمة من هذه النادرة
https://nora-inkwell.com/ZYaGrlp
فريق عمل محبرة