مقالات

قصة قصيرة: حبيبها لمكسيم غوركي

١٤ أكتوبر ٢٠٢٣
قصة قصيرة


روى لي أحد معارفي القصة التالية:


عندما كنت طالبًا في موسكو شاءت المصادفة أن أقيم بجوار سيدة ذات سمعة غير طيبة، كانت بولندية الأصل، وكان الناس يسمونها تيريزا. كانت امرأة سمراء، طويلة القامة، ممتلئة الجسم، ذات حاجبين كثيفين أسودين، ووجه خشن كبير - كما لو انه نحت بسكين كبيرة - وعينين سوداوين لامعتين، وصوت عريض... كل ذلك كان يشعرني بالرعب. كنت أقيم في شقة عالية، وكانت هي تقيم في شقة مقابلة، ولم أكن أترك بابي مفتوحًا عندما أعرف أنها في شقتها، ولكن ذلك كان حدثًا نادرًا.

كنت أحيانا ألتقي بها – مصادفة - على السلم أو في الساحة المحيطة بالبناء، وكانت تبتسم لي ابتسامة تنم عن خبث وسخرية. وأحيانا كنت أراها في حالة سكر، بعينين ضبابيتين وابتسامة بلهاء وفي هذه المناسبات كانت تتحدث الي:


- كيف حالك السيد الطالب؟


وكانت ضحكتها الساذجة تزيد من كرهي لها. كان جديرًا بي أن أغير شقتي لأتجنب مثل هذه اللقاءات والتحيات، ولكنها كانت شقة لطيفة، وكانت تطل على منظر شامل كنت أراه من النافذة، وكانت تقع في شارع هادئ، ولذلك تحملت هذه المرأة.


وفي صباح أحد الايام، كنت جالسا على الأريكة محاولًا أن أعثر على سبب يمنعني من الذهاب إلى المدرسة عندما فُتِح الباب وسمعت صاحبة الصوت العريض البغيض عند العتبة:


- أرجو ان تكون في صحة جيدة السيد الطالب.


قلت: ماذا تريدين؟ كان وجهها مرتبكًا مشوشًا على غير العادة.


- سيدي: أود أن أطلب منك طلبًا أرجو ان تلبيه لي.


لزمت الصمت وفكرت في نفسي:


- يا للسماء. كن شجاعا يا ولد.


قالت: أريد أن أبعث برسالة إلى موطني، هذا هو كل ما في الأمر.


كان صوتها ذليلًا وخفيضًا ومتوسلًا.


قلت في نفسي: فليأخذك الشيطان. قمت وجلست الى الطاولة وتناولت ورقة وقلمًا وقلت: تعالي واجلسي وأملي علي.


اقتربت وجلست بحذر شديد ونظرت الي نظرة توحي بإحساس بالذنب.


- حسن لمن تريدين توجيه الرسالة؟


- لبولزيلاف كاشبوت بمدينة سفييتسانيا في طريق وارسو.


- ابدأي.


_ عزيزي بولز ... حبيبي العزيز... حبيبي المخلص. أرجو أن تحميك مريم العذراء. قلبك من ذهب. لماذا لم تكتب منذ مدة طويلة لحمامتك الصغيرة الحزينة تيريزا؟


كدت أنفجر من الضحك: حمامة صغيرة حزينة بطول أكثر من ستة أقدام، وبقبضة حجرية، وجسم ضخم، ووجه أسود كما لو ان صاحبته عاشت حياتها كلها في مدخنة ولم تغسله مرة واحدة. حافظت على هدوئي وقلت:


- من هو بولست هذا؟


- بولز، السيد الطالب - كما لو انها شعرت بإهانة من خطأي في لفظ الاسم – هو بولز، صديقي الشاب.


- صديق شاب!


- ما الغرابة في الامر يا سيدي؟ أليس من حقي وأنا فتاة أن يكون لي صديق شاب؟


هي؟ فتاة؟ حسن!


- لم لا؟ كل شيء ممكن. وهل عرفته منذ مدة طويلة؟


- ست سنوات.


- ها! لنكتب الرسالة الآن.


تمنيت في قرارة نفسي أن أكون في مكان بولز هذا حتى لو كانت الفتاة التي تراسله مثل تيريزا أو حتى أقل منها لأنه لم يكن لي فتاة تكتب لي.


قالت تيريزا: شكرًا لك. ربما سأرد لك المعروف بطريقة ما.


- لا شكرا.


وقلت لها أنى لست بحاجة الى اي خدمة يمكن ان تقدمها لي.


وانصرفت.


ومر أسبوع أو اسبوعان، وكان الوقت مساءًا، وكنت جالسا بالقرب من النافذة أهمهم بلحن محاولا أن أهرب من نفسي وقد أخذ مني الضجر كل مأخذ، كان الطقس سيئًا ولم أكن أريد أن أخرج، وغرقت في فترة من التحليل الذاتي، وكان هذا باعثًا على مزيد من الضجر، ولكني لم أكن أبالي بشيء آخر،وعندئذ فتح الباب.


كانت تيريزا عند الباب.


- ماذا في الامر؟


- السيد الطالب: أرجو أن لا تكون منشغلًا في أمر مهم.


- لا. ماذا تريدين؟


- أريد أن اطلب منك أن تكتب لي رسالة اخرى.


- لمن؟ لبولز؟


- لا. هذه المرة رسالة من بولز.


- ماذا؟


- يالي من امرأة غبية. عفوك يا سيدي الطالب. الرسالة من أجل صديق لي. هو ليس صديقا، ولكنه أحد معارفي، له حبيبة تشبهني اسمها تيريزا. هل لك ان تكتب رسالة لتيريزا هذه؟


نظرت اليها: كان وجهها مرتبكًا، وكانت أصابعها ترتعش، لم أفهم في البداية، ثم توضح لي الأمر.


- اسمعي ايتها السيدة، ليس ثمة أشخاص باسم بولز او تيريزا على الاطلاق، وانت تكذبين علي، كفي عن الكذب ولا تتسللي إلى شقتي مرة أخرى، هل تفهمين؟


وفجأة اعترتها حالة غريبة من الذعر، وراحت تتلعثم وكأنها تريد أن تقول شيئا ولا تستطيع، وانتظرت لأرى ماذا تريد ان تقول، وشعرت أني ارتكبت خطأ عندما غلب على ظني أنها كانت تريد أن تحرفني عن طريق الصلاح، كان من الواضح ان الأمر كان مختلفًا تماما.


قالت: السيد الطالب، ولكنها فجأة لوحت بيدها واستدارت وخرجت من الباب، وراودني شعور مزعج، كانت الفتاة البائسة في غاية الغضب. وفكرت أن اذهب اليها وادعوها أن تعود لأكتب لها ما تريد.


دخلت الى شقتها، ونظرت في المكان، كانت تجلس إلى الطاولة مسندة مرفقيها عليها واضعة رأسها بين يديها.


قلت: اسمعيني.


(عندما أصل الى هذه النقطة في القصة أشعر بالحرج والغباء. حسن! حسن!)


قلت: اسمعيني.


قفزت من كرسيها واقتربت مني بعينين لامعتين ووضعت يدها على كتفي، وهمست في أذني بصوتها العريض:


- انظر... الأمر على هذه الشاكلة: ليس ثمة شخص اسمه بولز ولا تيريزا. ولكن كيف يختلف الامر بالنسبة إليك؟ هل يصعب عليك أن تجر القلم على الورق؟ وهكذا توضح الأمر.


شعرت بكثير من الدهشة لهذا الإستقبال.


- ماذا في الامر إذن؟ ليس ثمة شخص اسمه بولز؟


- لا.


- ولا تيريزا؟


- ولا تيريزا. انا تيريزا.


لم أفهم شيئًا. نظرت اليها وحاولت أن اعرف إي منا كان في طريقه إلى الجنون، ولكنها عادت إلى الطاولة وبحثت عن شيء ما ثم عادت إلي وقالت بصوت ينم عن احساس بالإهانة:


- إذا كان من الصعب عليك أن تكتب لبولز، انظر، هذه هي رسالتك..خذها...أشخاص آخرون سيكتبون لي.


كانت تمسك بيدها الرسالة التي كتبتها لبولز:


- اسمعي يا تيريزا.. ما معنى هذا كله؟ ما معنى أن يكتب آخرون رسالة لك في الوقت الذي كتبت لك رسالة لم ترسليها؟


- ارسلها أين؟


- إلى هذا... الى بولز.


- ليس ثمة شخص اسمه بولز.


لم أفهم شيئا على الإطلاق.. لم يكن أمامي إلا أن ابصق وأغادر المكان، ولكنها اسرعت وشرحت لي قائلة:


- ماذا؟ هل مازلت مستاءًا؟ قلت لك لا يوجد مثل هذا الشخص.


ومدت ذراعيها كما لو انها هي الأخرى لم تفهم سبب عدم وجود شخص اسمه بولز.


وقالت: ولكني أردت أن يكون لي صديق، ألست انسانا ومن حقي أن يكون لي صديق مثل غيري من الناس؟ أعرف..أعرف..أعرف ..طبعا.. ولكن لم يلحَق أذى بأي شخص كتبت إليه. . .


- عفوًا.. من تقصدين؟


- بولز طبعا.


- ولكنه غير موجود.


- للأسف... ولكن ماذا لو لم يكن موجودا؟ بل قد يكون موجودا.. أنا أكتب إليه ويبدو أنه كان موجودًا، وهو يرد، وأنا أكتب له مرة اخرى.


وفهمت في آخر الأمر، شعرت بالغثيان والحزن والخجل. فأمامي على بعد مسافة قصيرة وقفت امرأة لم تجد في العالم كله من يعاملها بحنان فاخترعت صديقا لها.

قالت:


- انظر.. كتبت لي رسالة لبولز واعطيتها لشخص اخر ليقرأها لي. وعندما قرأوا الرسالة استمعت اليها وشعرت أن بولز يتحدث الي، وطلبت منك ان تكتب لي رسالة من بولز إلى تيريز – أنا -. وعندما يكتبون لي رسالة من بولز أشعر أن بولز موجود وتصبح حياتي أكثر يسرا.


ومنذ ذلك الوقت رحت أكتب رسالتين كل أسبوع واحدة لبولز واخرى لتيريزا. كتبت هذه الرسائل جيدًا. وطبعا استمعت تيريزا لها جميعا وبكت، بل انتحبت بصوتها العريض. ومقابل ذلك كله راحت ترتق جواربي وقمصاني وغيرها من ثيابي، وبعد ثلاثة أشهر من هذه القصة قبضوا على تيريزا وسجنوها لشيء ما فعلته. واغلب الظن انها الان في عداد الموتى.


ونفض محدثي رماد سيجارته ونظر الى السماء وقال:


- كلما تذوق الانسان الأشياء المرة في الحياة إزداد تشوقه الى تذوق ما في الحياة من حلاوة، وكل شيء يتضح في اخر الامر بقسوة شديدة، ونقول أنها الطبقات الساقطة..ومن هي الطبقات الساقطة؟ أريد أن أعرف.. إنها من أشخاص لهم ذات العظام واللحم والدم والأعصاب مثلنا، وقلنا هذا يومًا بعد يوم على مدى عصور، والشيطان وحده يعرف مدى قبح الأمر كله. والحقيقة أننا جميعا ساقطون، وفي نظري أننا جميعا ساقطون في هوة الاكتفاء الذاتي واحساسنا المزيف بالتفوق ولكن هذا كلام قديم قدم التلال، قديم بحيث أن من العار أن نتحدث به مرة اخرى.


ترجمة: د. زياد الحكيم

[email protected]

لندن – بريطانيا

منقول بتصرف-:تدقيق املائي: نورا ع من فريق عمل محبرة


الجدير بالذكر أن الفنان القدير ياسر العظمة قد اقتبس من هذه الفكرة في أحدى لوحات مسلسله مرايا وقد أدى بطولته مع كاريس بشار التي بدت جميلة حتى في أقبح حالاتها كما من المفترض أن تكو،ن تبعاً للدور، أضاف ياسر للدور طابعًا انسانيًا أكثر وأعطى القصة روحًا عربية ونهاية أكثر تفاؤلًا،

هذا هو رابط القصة في المسلسل

https://www.youtube.com/watch?v=DScmrVGvyzU





1